عمر بن عبد العزيز
في هذا العرض سنعيش مع شخصية عظيمة تبرز بجلاء مدى قوة المسلم عند تمسكه بالعقيدة وصنعه لمعجزات يسمع بها الشرق والغرب بلسان الدكتور علي بن عبد الخالق القرني
أمتكم أمة مجيدة عظيمة كريمة، اختارها الله؛ لتكون واسطة العقد في هذا التاريخ، فهي الشاهدة على الناس والرسول عليها شهيد، إنها أمة تمرض لكنها لا تموت، وقد تَغْفُو أحياناً لكنها لا تنام، وتُغْلَب لكنها لا تُسْحَق، أخرج الله منها منائر للتوحيد وهداة للبشر، ومشاعل للحضارة الحقَّة.
فمع عَلَم من أعلام هذه الأمة نقف وقفة عظة وتذكر وتدبر، عَلَم يجب على الأمة أن تجعله وأمثاله قدوة من القدوات يوم كادت تغيب القدوات، ليكون حديث شيوخها في المنتديات، وقصصاً لأطفالها الذين لطالما أُشغلوا بالقصص الهابط والرسوم المتحركات، وحديثاً لبعض شبابها الذين لطالما شغلوا بالحديث عن اللاعبين والفنانات، وملئوا أسماعهم وأبصارهم بالأفلام والمسلسلات.
إنه من جعل كبيرَ المسلمين له أباً، وأوسطهم أخاً، وأصغرهم ولداً، فوقّر أباه، وأكرم أخاه، وعطف على ولده.
إنه القِيَم والأخلاق والمثل، وما أجمل وأروع أن نرى المُثل رجالاً، والأخلاق واقعاً ملموساً!
إنه من العادلين إن ذكر العدل، إنه الخائف من الله إن ذكر الخائفون، إنه من حيزت له الدنيا بين يديه فتولى الخلافة فلم يصلح بينه وبين الله أحد من خلقه، فخاف الله وما تكبر وما تجبر وما ظلم، خشي الله فعدل، خشي الله فأمن، خشي الله فرضي.
أظنكم قد عرفتم من هو؟
إنه عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
وما أدراكم ما عمر؟! رجل لا كالرجال، وسيرة لا كالسير، وعذراً لن نَفِيَه حقه في هذه العجالة، لكن حسبكم وحسبي أن نقف عند بعض مواقفه؛ لنتفكر وننظر ونعتبر، والتاريخ نقرأ.
اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111] فحيهلا بكم -عباد الله- إلى بحر عمر لنبحر، ومن لآلئه لنَقْبُسَ ونذكر، ومن درره ننهل فنَرْوِي ونروى، وعند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة بإذن رب العالمين.
تولى الخلافة فكان مجدداً بحق -رضي الله عنه ورحمه- كانت خلافته ثلاثين شهراً لكنها خير من ثلاثين قرناً، لم يضيعها في كسب دنيوي ولا شهوة عاجلة، لكنه جعلها لله رب العالمين فبارك الله في سنتين ونيف.
بويع بالخلافة، وقام ليلقي أول خطاب له على المنبر فتعثر في طريقه إلى المنبر، تعثر من ثقل المسئولية، وتعثر من خوف رب البرية.
وقف يتحدث للناس قائلا: لقد بُوْيِعت بالخلافة على غير رغبة مني، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتى، فاختاروا لأنفسكم.
فصاح الناس صيحة واحدة ممزوجة بالبكاء: قد اخترناك ورضينا بك.
فبكى وقال: الله المستعان.
ثم أوصاهم من على المنبر قائلاً: أُوصيكم بتقوى الله؛ فإن تقوى الله خَلَفٌ من كل شيء، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، ثم رفع صوته: أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
ونزل عن المنبر.
وبعد ذلك تُعرض له الدواب والخيل ليركبها؛ لتكون موكبه إلى قصر الخلافة كما كان يفعل أسلافه فأعرض عنها قائلاً: ما أنا إلا رجل من المسلمين أَغْدو كما يغدون وأَرُوْحُ كما يروحون.
عاد لبيته معلناً أن من تواضع لله رفعه، ترك قصر الخلافة، ونزل غرفته المتواضعة وجلس حزيناً يئن تحت وطأة المسئولية، ثم استدعى زوجه فاطمة -بدأ بالأقربين- استدعى فاطمة الزاهدة العابدة بنت الخليفة وأخت الخلفاء.
بنتُ الخليفة والخليفة جدها أختُ الخلائف والخليفة زوجها
قال لها: إني بعتُ نفسي من الله، فإن كنت تريدين العيش معي فحيهلا، وإلا فالحقي بأهلك، هذه الحُلِي التي تلبسينها تعلمين من أين أتى لك بها أبوك؟ رديها إلى بيت المال، والله لا أجتمع مع هذه الحلي في دار أبداً بعد اليوم.
قالت الزاهدة الراغبة فيما عند الله: بل أردها والحياة حياتك يا عمر، وللآخرة خير وأبقى.
خرج إلى الأمة ليردها إلى الله الواحد القهار، فكان فعله يصدق قوله، وكان لا يشغله عن الله شاغل، لَيْلُه قيام وبكاء وخشوع وتضرع، ونهاره عدل وإنصاف ودعوة وبذل وعطاء.
فما ليلنا ونهارنا يا عباد الله؟!
إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا قيم السماوات والأرضين.
ملأ الأرض عدلاً بعد أن كادت تُملأ جوراً، هيه يا عمر!
قد عشت عمرك زاهداً في كل ما جمع البشر
أتعبت من سيجيء بعدك في الإمارة يا عمر!
بعد كل صلاة ينادي مناديه: أين الفقراء؟ أين المحتاجون؟ فيقدم لهم الطعام والأموال، فلا والله ما تنساه البطون الجائعة ولا الأكباد الظامئة، ما دام في الأرض بطنٌ جائع أو كَبِدٌ ظمآن.
هو البحر من أي النواحي أَتَيْتَه فلُجَته المعروفُ والجودُ ساحله
ولو لم يَكُ في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
رزقه الله الخَشْيَة، ومن رُزِقَ الخشية فقد رُزِق خيراً كثيراً، والذي يجعل الله نصب عينيه يفتح الله عليه، فتح الله على عمر فتحاً لا يخطر بالبال ولا يدور بالخيال، وكان أخوف الناس لله وهو يرجو الأمان من الله بإذنه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] .
ففي الحديث القدسي: {وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنَيْن: إن أمِنَني في الدنيا خوفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمَّنْتُه يوم القيامة} .
دخل عليه أحد العباد: وهو كعب القرظي؛ فجعل ينظر في وجهه فإذا به: وَجْهٌ شاحب، وبدنٌ ناحل، كأن جبال الدنيا قد سقطت عليه، فقال: يا عمر! ما دهاك؟ ما أصابك؟ والله لقد رأيتك أجمل فتيان قريش، تلبس اللَّيِّن وتفترش الوثير، لَيِّنُ العيش، نضر البشرة، والله لو دخلت عليك -يا عمر - في غير هذا المكان ما عرفتك.
فينهد عمر باكياً ويقول: أما إنك لو رأيتني بعد ثلاث ليال من دفني، وقد سقطت العينان، وانخسفت الوجنتان، وعاشت في الجوف الديدان، وتغير الخدان، لكنت لحالي من حالي أشد عجباً، وأعظم إنكاراً.
فبكى كعب، وبكى الناس حتى ضج مجلسه بالبكاء.
جعل الهم هماً واحداً، فرضي الله عنه ورحمه، إنه هَمُ الآخرة وكفى.
عرف عمر نفسه ومهمته وغايته وهدفه، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، فكَسَدَت عنده بضاعة المنافقين والشعراء، وقامت سوق المساكين والفقراء.
يدخل عليه أحد الشعراء فيمدحه، فلم يجد منه سماعاً لما يقول، ولم يعطِه شيئاً فخرج، وهو يقول: رجل يعطي الفقراء ويمنع الشعراء.
وجدت طُرُقَ الشيطان لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن راضيا
أدنى الصالحين والعباد، فجعلهم بطانته، وطلب منهم أن يوصوه ويبصروه بعيوبه، يقول لهم: لقد توليت أمر أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم فأعينوني.
فكتب له سالم مولى أبي حذيفة: صُمْ هذا اليوم حتى تلقى الله فتفطر عنده.
وكتب له مطرف بن عبد الله: يا أمير المؤمنين! لو كان لك خصم لدود لأعجزك، فكيف بخصميْن؟ فكيف بثلاثة؟ كيف بك وخصمك أمة محمد-صلى الله عليه وسلم- كلهم؟!!
جمع سبعة من الصالحين، وقال: أنتم جلسائي كل ليلة، لكني أشترط عليكم شروطًا ثلاثة -يا ليتنا نشترط هذه الشروط في مجالسنا، اسمعوها وبلغوها، فَرُب مُبَلَّغٍ أوعى-:
أولها: لا تغتابوا ولا تعيبوا في مجلسي أحداً.
وثانيها: لا تتحدثوا في الدنيا.
وثالثها: ألا تمزحوا وأنا جالس أبداً.
فكانوا يجتمعون بعد العشاء فيتحدثون في الموت وما بعده، ثم ينفضون من مجالسهم وكأنما انفضوا عن جنازة، كتب له أثناء خلافته سالم بن عبد الله كتاباً شديداً يقول فيه: يا أمير المؤمنين! لقد تولى الملك قبلك أناس ثم صُرِعُوا وهاهي مصارعهم، فانظر إليها لترى، كانوا ينظرون بعيون إلى اللذات فأُكلت، ويأكلون في بطون فَنُهِشَتْ، ويميسون بخدود أكلها الدود، فاحذر أن تكون مع المحبوسين في جهنم يوم يُطلق العادلون.
فلما قرأ ذلك انهد باكياً، قائلاً: اللهم لا تجعلني مع المحبوسين يوم يُطلق العادلون.
حمل هم الأمة، خلع كل لباس إلا لباس التقوى، لم يُفنِ قليلاً ولا كثيراً، همُّه الآخرة لا الدنيا، كانت له نظرة مختلفة عن نظرات الناس، حج مع الناس وأخذ الناس يتسابقون يوم عرفة مع الغروب إلى مزدلفة، وهو يدعو ويتضرع ويقول: لا والله ليس السابق من سبق اليوم جواده وبعيره، إن السابق من غُفِر له هذا اليوم.
كان شديد المراقبة والخوف من الله، إذا أراد النوم ارتجف صدره، فتقول زوجه: ما بك يا عمر؟ قال: تذكرت قول الله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] فخفت خوفاً أورثني ما تَرَين.
فما حالنا مع القرآن؟
عمي عن الذكر والآيات تندبنا لو كلم الذكر جلموداً لأبكاه
مقياسه في الناس التقوى، وهكذا يجب أن تكون مقاييسنا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
يقول: والله ما رأيت متقياً إلا وددت أني في جلده.
استدعى مزاحماً يوم أن تولى الخلافة فقال: يا مزاحم! لقد رأيتك تُصلِّي الضحى في شِعب من الشعاب لا يراك فيه إلا الله فأحببتك والله، فكن عوني على نفسي، إذا رأيتني ظلمت فخذ بتلابيبي وقل: اتق الله يا بن عبد العزيز.
كان يحب العفو ويحب الإحسان، نال رجل منه ذات يوم، فقيل له: رد على هذا السفيه، فقال: إنَّ التَّقِي مُلْجَمٌ، إنَّ التَّقِي مُلْجَمٌ.
والصمت عن جاهلٍ أو أحمق شرفٌ وفيه أيضاً لِصَْوِن العِرْضِ إصلاح
أما ترى الأُسْدَ تُخْشَى وهي صامتة والكلب يُخزى لعمر الله نبَّاح
كان-رضي الله عنه- لا يرضى مظلمة.
دخل بعضهم يبايعه فقبض يده، فقال: لِمَ أيها الأمير؟
قال: اُغْرُبْ عني، تَجْلِدُ فلاناً سبعين جلدة؛ لأنه آذى ابنك؟! ما غضبت لله، وإنما غضبت لنفسك ولابنك، والله لن تلي لي عملا أبداً بعد اليوم.
قطع أُعْطيَات بني أمية وصلاتهم؛ فغضبوا وأرسلوا له ابنه عبد الملك فقال لابنه: قل لهم: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] .
أَلْجم عمر نفسه بهذا اللجام، فهلا أَلْجمنا أنفسنا بلجام: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] ؟
وَلَّى العُبَاد والزُّهاد واختارهم فقامت الدنيا، يقول ميمون بن مهران: لقد أخبرنا رعاة الأغنام أن الذئب في خلافة عمر ما كان يَعْدُو على الأغنام.
فيا لله! حتى البهائم تسعد في ظل العدل وتأمن؟! لما تُوفِي عمر عَدَتْ الذئاب على الأغنام، فعرف البوادي أنه مات رجل عادل، فالعدل أمن وسكينة وطمأنينة وبالعدل قامت الدنيا.
كان شديد المحاسبة لنفسه وَرِعاً تقياً، كان يقسم تفاحاً أفاءه الله على المسلمين، فتناول ابن له صغير تفاحة، فأخذها من فمه، وأوجع فمه؛ فبكى الطفل الصغير، وذهب لأمه فاطمة، فأرسلت من اشترى له تفاحاً، وعاد إلى البيت وليس معه تفاحة واحدة، فقال لـ فاطمة: هل في البيت تفاح؟ إني أَشُمُ الرائحة، قالت: لا، وقصت عليه القصة -قصة ابنه- فَذَرفت عيناه الدموع وقال: والله لقد انتزعتها من فم ابني وكأنما أنتزعها من قلبي، لكني كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من فيْء المسلمين قبل أن يُقَسَّم الفَيءُ.
فيا لله! وربِّ عمر إن مشهداً كهذا خير من الدنيا وما فيها من زخرف ومتاع.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] .
كان متواضعًا لله، مدحه رجل في وجهه فقال: يا هذا! أما إنك لو عرفت من نفسي ما أعرف منها ما نظرت إلى وجهي، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.
كان شديد الخوف من الله جل وعلا، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل.
كان يذكر الله في فراشه -كما تقول زوجه- ثم ينتفض كما ينتفض العصفور المبلل، حتى أقول: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم.
ثم تقول: يا ليت بيننا وبين الخلافة بُعْدَ المشرقين، والله ما رأينا سروراً مذ تولى الخلافة عمر.
تقول فاطمة زوجه: أمسى ذات ليلة، وقد فرغ من استعراض حوائج المسلمين، ثم أطفأ السراج، ثم قام فَصَلَّى ركعتين، ثم جلس واضعاً رأسه على يديْه تسيل دموعه على خده، يشهق الشهقة فأقول: قد خرجت نفسه وانصدعت كَبِدُه، فلم يزل كذلك حتى أصبح الصبح، ثم أصبح صائماً، تقول زوجه: فدنوت منه، وقلت: يا أمير المؤمنين! كثير ما كان منك الليلة أَأَمر ألمَّ بك أم ماذا دهاك؟ فأجابها -وقد نصب خوف الله أمام عينيْه- قائلاً: إني نظرت في نفسي، فوجدتني قد وليت أمر هذه الأمة صغيرها وكبيرها وأسودها وأحمرها، ثم ذكرت الغريب والفقير واليتيم في أقاصي البلاد، فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حجيجي فيهم، فخفت ألا يثبت لي عند الله عذر، فخفت خوفاً دمعت له عيني، وَوَجَلَ له قلبي، وكلما ذكرتُ ذلك ازداد خوفي وجلاً، ثم انْهدَّ باكياً رضي الله عنه ورحمه.
أواه! من لنا بمثل عمر؟! عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر!
بكت فاطمة زوجه بعد وفاته حتى عشي بصرها، ودخل عليها إخوتها قائلين: ما هذا يا فاطمة؟ أجزعك على عمر؟ فهو والله أحق مَنْ يُجْزَعُ على مثله، أم على شيء من الدنيا؟ فأموالنا بين يديْك وما أخذت منها خير مما تركت.
قالت: والله لا هذا ولا ذاك.
لكني رأيت من عمر ليلةً منظراً ما تذكرته إلا بكيت، رأيتُه ليلةً قائماً يُصَلِّي، ثم جلس يقرأ حتى أتى على قول الله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:4-5] ، فصاح: وا سوء صباحاه! ثم وثب ثم سقط فجعل يَئِنُّ حتى ظننت أن نَفْسَه ستخرج، ثم هدأ ثم نادى: وا سوء صباحاه! ثم قام، وهو يقول: وَيْلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر، ثم سقط كأنه ميت حتى سمع الأذان فقام.
تقول: فوالله ما ذكرت ليلته تلك إلا غلبتني عيناي فلم أملك رد عبرتي فأسأل الله أن يؤمنه وأن يؤمننا: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:4-5] .
خاف الله في الدنيا ونسأل الله أن يؤمنه في الآخرة.
هذه مواقف من حياة عمر ومن خوفه من الله وزهده وعدله، هذا هو عمر الذي جلس للناس مربياً ومعلماً وأباً وأخاً، هذا هو عمر لمن أراد أن يقتدي بـ عمر: {وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} {وما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة} .
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة رجالاً كـ عمر يردون الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم وأصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
لكل أجلٍ كتاب، ولكل بداية نهاية: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] يموت كل صغير وكبير وذكر وأنثى ومُقرٍّ وجاحد وزاهد وعابد: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] .
وتنتهي حياة الأخيار بالنهاية الحميدة؛ فكأن الأخيار ما بَئِسُوا مع من بَئِسَ، ما كأنهم سهروا في طاعة الله، ما كأنهم تعبوا، ما كأنهم جاعوا بعد أن تنعموا؛ لأنهم صُبِغُوا في الجنة صَبْغَةً فزال كل بؤس وألم ونصب وتعب وَوَصَبٍ.
وتنتهي في المقابل حياة الفجار بحفرة من حفر النار، فما كأن الفجار تنعموا ولا أكلوا ولا تلذذوا، عند أول صبغة في النار يزول كل نعيم، ولا خير في لذة من بعدها النار.
وتأتي وفاة عمر الذي كان من أعظم ما قاده إلى الله ذكر الموت.
اشتد به المرض وأدخل عليه الأطباء، ووضعوا له العلاج المناسب والشفاء بيد بارئه سبحانه وبحمده، فقال: والله لو كان دوائي في أن أرفع يدي اليمنى إلى أذني ما فعلت، والله ما أنا بحريص على الدنيا فقد مللتها، لكني أسأل الله أن يُسَلِّم.
ثم استدعى خادماً له وقال: أسألك بمَنْ يجمع الناس ليوم لا ريب فيه! أأنت سممتني في الطعام؟ قال الخادم: إي والله.
قال: فكم أعطوك على ذلك؟ قال: ألف دينار.
قال: اذهب فأنت حر لوجه الله، والله يحب المحسنين.
دخل الناس عليه يعودونه، وكان كلما عاده أحد قال له: اُعْفُ عني عفا الله عنك.
قام وخطب الناس فكان مما قال: اتقوا الله قبل حلول الموت بكم؛ إني لأقول هذا وما أعلم أحداً عنده من الذنوب أكثر مما عندي.
ثم خنقته عبرته فأخذ طرف ردائه فوضعه على وجهه يبكي، فما بقي أحد إلا بكى لبكائه، ولم يخطب بعدها رحمه الله.
وفي ضحى يوم عيد الفطر حلت به سكرات الموت، التي لابد من حلولها بكل واحد منا، ونسأل الله أن يحسن الختام، فجاءه مسلمة بن عبد الملك فقال له: إنه قد نزل بك ما نزل، وإنك تركت صبيتك صغاراً لا مال لهم فأوص بهم إليَّ.
فجلس وقال: والله ما منعتهم حقاً هو لهم، ووالله لن أعطيهم ما ليس لهم، إن بنيّ أحد رجلين: إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجاً، وإما مُكِبٌ على المعصية فلم أَكُنْ لأقويه على معصية الله، ثم أمر فقال: ادعوا أبنائي جميعاً، فدعوهم، وكانوا بضعة عشر صبياً كأنهم فراخ.
نظر إليهم بحنان الوالد، نظر لضعف طفولتهم وبراءة أعينهم؛ فذرفت عيناه الدمع ثم قال: أفديكم بنفسي أيتها الفتية الذين تركت ولا مال لهم، أي بَنيّ: إن أباكم كان بين أمرين: إما أن يُغْنيكم ويدخل النار، أو يُفْقركم ويدخل الجنة، فاختار أن يفقركم ويدخل الجنة، لكن إن وليي فيكم الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين.
انصرفوا عصمكم الله.
فانصرف أبناؤه، فجعل يبتهل إلى الله في خشوع ويقول: رباه! أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت.
رباه! ما عندي ما أعدُه إلا خوفي منك وحسن ظني بك وأن لا إله إلا أنت، ثم أمر الناس أن يخرجوا فكانوا يسمعونه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] وأسلمَ الروح إلى باريها-فرحمة الله عليه-:
جسد لُفِّفَ في أكفانه رحمة الله على ذاك الجسد
كان يقول قبل وفاته: إذا غسَّلتموني وكفَّنتموني ووضعتموني في لحدي فاكشفوا عن وجهي، فإن ابْيضَّ فاهنئوا، وإن اسْودَّ فويلٌ لي، ثم ويلٌ لي.
يقول رجاء: فكنت فيمن غسَّله وكفَّنه وأدخله لَحده، وحلَلْت العُقدة من كفنه، ثم نظرت إلى وجهه، فإذا هو كالقراطيس بَياضًا.
بيَّض اللهُ وجهه يومَ تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوه.
أسلم الروحَ عمر، فأُسكِتَ فمٌ لطالما تلجلج بذكر الله، وأُغمِضتْ عينان لطالما ذَرَفَتا من خشية الله، واستراحتْ يدان لطالما هَدَت لما يُرضي الله.
ودَّع الأمة والجياع شبعوا، والخائفون أَمِنُوا والمستضعَفون نُصروا بإذن ربهم، وجد اليتامى فيه أباً لهم، والأيامى لهم كافلاً، والتائهون لهم دليلاً، والمظلومون لهم نصيراً، وحلَّت المصيبة بالمسلمين، وأُغلقت القلوب بحزنها، والعيون بدمعها.
فاليومُ تنعمُ يا عمر بجوار من أَهدى البشرْ
فسَقى رُفاتك وَابلاً مِن ماءِ غيثٍ منهمرْ
يقول مسلمة: يرحمك الله يا عمر! لقد ليَّنتَ قلوباً قاسية، وأبقيتَ لنا في الصالحين ذِكراً.
ذهب عمر بعد أن حقَّقَ العدل والطمأنينة والسكينة والأمن بالإيمان في سنتين وخمسة أشهر وبِضعة أيام، كان كثيراً ما يقول ويردِّد: "إنَّ الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما، إنَّ الرجال لا تُقاس بالأعمار ولكن بالهِمَم والأعمال".
مات عمر وما مات ذِ كره، ولا يموت ذِكرُ الصالحين، لهج المسلمون بالدعاء والثناء عليه، ليس المسلمون فحسب، هاهو ملك الروم ليون الثالث يقول: لو كان رجل يحي الموتى بعد عيسى لكان عمر، واللهِ لا أَعجَب من راهبٍ جلس في صَوْمعته وقال إنَّي زاهد، لكنِّي أعجب من عمر يوم أَتَتْه الدنيا حتى أناخت عند قدميه فركلها بقدميه وأعرض عنها واختار ما عند الله.
ليس هذا فحسب، بل بكى عليه أحد رُهبان النصارى، فقيل له: لِمَ تبك عليه وعمر على غير دينك؟ قال: يرحمه الله قد كان نوراً في الأرض فأُطفِئ.
هذه سيرة عمر أيها الأخ الكريم، هل أعجبتك؟ إن أعجبتك فاقْتَدِ بها، اقْتَدِ بـ عمر وبالصالحين علَّك أن تكون بعضَهم إن لم تكن جُلَّهُم، فإن لم تستطع ذلك وجاهدتَ نفسك فأحبَّهم، فالمرءُ مع مَنْ أَحبَّ.
إذا أعجبتك خِصال امرئٍ فَكُنه يَكُن منك ما يُعجبكْ
فليس على الجُودِ والمَكرُماتِ إذا جِئتَها حاجباً يحْجِبُكْ
اللهم يا من لا تراه في الدنيا العيون، ولا تُخالِطه الظنون، ولا يصِفه الواصفون! يا من قَدَّر الدهور، ودبَّر الأمور، وعلِم هواجس الصدور! يا من عزَّ فارتفع! وذلُّ كلُّ شيء له فخضع، وجهك أكرم الوجوه، وجاهُك أعظم الجاه، وعطيِّتك أعظم العطيِّة، تجيب المضطرَّ، وتكشف الضرَّ، وتغفر الذنب، وتقبل التوب، لا إله إلا أنت!
يا من أظهر الجميل! يا من ستر القبيح! يا من لا يهتِك الستر! يا حَسَنَ التجاوز! يا واسعَ المغفرة! يا باسطَ اليدين بالرحمة! يا عظيمَ المَنِّ! يا كريمَ الصَّفْح! يا صاحبَ كلِّ نَجْوَى! يا دافع كل بلوى! اجعلنا من العادلين واغفر لآبائنا وأمهاتنا وسائر المؤمنين، واحشرنا مع المقسطين، في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، برحمتك يا أرحم الراحمين.