- من أعظم الغلط: الثقة بالناس، والاسترسال إلى الأصدقاء، فإن أشد الأعداء وأكثرهم أذى الصديق المنقلب عدوًا؛ لأنه قد اطلع على خفي السر، قال الشاعر:
احذر عدوك مرةً ... واحذر صديقك ألف مرهْ
فلربما انقلب الصديْـ ... ـق فكان أعلم بالمضرهْ
- واعلم أن من الأمر الموضوع في النفوس الحسد على النعم، أو الغبطة، وحب الرفعة! فإذا رآك من يعتقدك مثلًا له، وقد ارتقيت عليه، فلا بد أن يتأثر، وربما حسد؛ فإن إخوة يوسف عليهم السلام من هذا الجنس، جرى لهم ما شأنهم.
فإن قلت: كيف يبقى الإنسان بلا صديق؟!
قلت لك: أتراك ما تعلم أن المجانس يحسد، وأن أكثر العوام يعتقدون في العالم أنه لا يتبسم، ولا يتناول من شهوات الدنيا شيئًا؛ فإذا رأوا بعض انبساطه في المباح، هبط من أعينهم؟! فإذا كانت هذه حالة العوام، وتلك حالة الخواص، فمع من تكون المعاشرة؟!
لا، بل والله ما تصح المعاشرة مع النفس؛ لأنها متلونة.
- وليس إلا المداراة للخلق، والاحتراز منهم، واتخاذ المعارف من غير طمع في صديق صادق، فإن ندر، فليكن غير مماثل؛ لأن الحسد إليه أسبق، وليكن مرتفعًا عن رتبة العوام، غير طامع في نيل مقامك.
- وإن كانت معاشرة هذا لا تشفي؛ لأن المعاشرة ينبغي أن تكون بين العلماء المجانس؛ فلزمهم من الإشارات في المخالطة ما تطيب به المجالسة، ولكن لا سبيل إلى الوصال.
- ومثل هذه الحال أنك إن استخدمت الأذكياء، عرفوا باطنك، وإن استخدمت البله، انعكست مقاصدك. فاجعل الأذكياء لحوائجك الخارجة، والبله لحوائجك في منزلك، لئلا يعلموا أسرارك، واقنع من الأصدقاء بمن وصفته لك، ثم لا تلقه إلا متدرعًا درع الحذر، ولا تطلعه على باطن يمكن أن يستر عنه، وكن كما يقال عن الذئب:
ينام بإحدى مقلتيه وَيَتَّقِي ... بأخرى الأعادي، فهو يقظان هاجِعُ
عن كتاب صيد اللخاطر لجمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي